فصل: تفسير الآية رقم (245):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (245):

قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كانت النفقة التي هي من أعظم مقاصد السورة أوثق دعائم الجهاد وأقوى مصدق للإيمان ومحقق لمبايعة الملك الديان كرر الحث عليها على وجه أبلغ تشويقًا مما مضى فقال على هيئه الممتحن للصادق ممن أمره وحذره وأنذره: {من ذا الذي} منكم يا من كتب عليهم القتال والخروج عن الأنفس والأموال {يقرض الله} الذي تفرد بالعظمة، وهو من الإقراض أي إيقاع القرض ولذا قال: {قرضًا} وشبه سبحانه وتعالى العمل به لما يرجى عليه من الثواب فهو كالقرض الذي هو بذل المال للرجوع بمثله، وعبر به لدلالته على المحبة لأنه لا يقرضك إلا محب، ولأن أجره أكثر من أجر الصدقة {حسنًا} أي جامعًا لطيب النفس وإخلاص النية وزكاء المال.
وقال الحرالي: القرض الجزّ من الشيء والقطع منه، كأنه يقطع له من ماله قطعة ليقطع له من ثوابه أقطاعًا مضاعفة، والقرض بين الناس قرضًا بقرض مثلًا بمثل فمن ازداد فقد أربى ومن زاد من غير عقد ولا عهد فقد وفى، فالقرض مساواة والربا ازدياد، ووصف سبحانه وتعالى القرض الذي حرض عليه بالحسن لتكون المعاملة بذلة على وجه الإحسان الذي هو روح الدين وهو أن يعامل الله به كأنه يراه- انتهى.
ولما كانت الأنفس مجبولة على الشحّ بما لديها إلا لفائدة رغبها بقوله مسببًا عن ذلك: {فيضاعفه} قال الحرالي: من المضاعفة مفاعلة من الضعف- بالكسر- وهي ثني الشيء بمثله مرة أو مرات، وأزال عنه ريب الاحتمال بقوله: {له} أي في الدنيا والآخرة.
قال الحرالي: هذه المضاعفة أول إنبائها أن الزائد ضعف ليس كسرًا من واحد المقرض ليخرج ذلك عن معنى وفاء القضاء فإن المقترض تارة يوفي على الواحد كسرًا من وزنه، «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقترض قرضًا إلا وفى عليه زيادة، وقال: خير الناس أحسنهم قضاء» فأنبأ تعالى أن اقتراضه ليس بهذه المثابة بل بما هو فوق ذلك لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله إلى ما يقال فيه الكثرة؛ وفي قوله: {أضعافًا} ما يفيد أن الحسنة بعشر، وفي قوله: {كثيرة} ما يفيد البلاغ إلى فوق العشر وإلى المائة كأنه المفسر في قوله بعد هذا {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [البقرة: 261]، فأوصل تخصيص هذه الكثرة إلى المئين ثم فتح باب التضعيف إلى ما لا يناله علم العالمين في قوله: {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261]- انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} اعتراض بين جملة: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} [البقرة: 243] إلى آخرها، وجملة: {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل} [البقرة: 246] الآية، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر، لمناسبة الحث على القتال، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العُدَّة والمَؤُونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلًا في سبيل الله بإعطاء العُدَّة لمن لا عُدَّة له، والإنفاق على المعسرين من الجيش، وفيها تبيين لمضمون جملة: {واعلموا أن الله سميع عليم} [البقرة: 244] فكانت ذات ثلاثة أغراض. اهـ.

.قال أبو حيان:

ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله، أثنى على من بذل شيئًا من ماله في طاعة الله، وكان هذا أقل حرجًا على المؤمنين، إذ ليس فيه إلاَّ بذل المال دون النفس، فأتى بهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة معنى الطلب. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{فيضاعفه} بالألف والنصب: عاصم غير المفضل وسهل {فيضعفه} بالتشديد والنصب: ابن عامر ويعقوب غير روح. فيضعفه بالتشديد والرفع: ابن كثير ويزيد وروح. الباقون فيضاعفه بالألف والرفع وكذلك في سورة الحديد {ويبصط} بالصاد: ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير الخزاعي عن ابن فليح، وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل، وسهل وعاصم وابن ذكوان وغير ابن مجاهد والنقاش وشجاع وعلي الحلواني من قالون مخير. الباقون بالسين.

.الوقوف:

{الموت} ص {أحياهم} ط {لا يشكرون} O {عليم} O {كثيرة} ط {ويبسط} ص {ترجعون} O. اهـ.

.سبب النزول:

عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} قال أبو الدحداح: يا رسول الله أو إنّ الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» قال: أرِنِي يدك قال فناوله؛ قال: فإني أقرضت الله حائطًا فيه ستمائة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأُمّ الدحداح فيه وعياله؛ فناداها: يا أُمّ الدحداح؛ قالت: لبيك؛ قال: اخرجي، قد أقرضت ربي عز وجل حائطًا فيه ستمائة نخلة. وقال زيد ابن أسلم: لما نزل: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} قال أبو الدحداح: فداك أبي وأُمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال: «نعم يريد أن يدخلكم الجنة به». قال: فإني إن أقرضتُ ربي قرضًا يضمن لي به ولِصِبْيَتي الدَّحْداحة معي الجنة؟ قال: «نعم» قال: فناولني يدك؛ فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده. فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأُخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضًا لله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعل إحداهما لله والأُخرى دعها معيشة لك ولعيالك» قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: «إذًا يجزيك الله به الجنة».
فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
هداكِ ربّي سُبُلَ الرشادِ ** إلى سبيل الخير والسّدادِ

بِينِي من الحائط بالوِداد ** فقد مضى قرضًا إلى التَّناد

أقرضتُه اللَّه على اعتمادي ** بالطَّوْع لا مَنٍّ ولا ارتداد

إلاّ رَجاءَ الضِّعْف في المَعاد ** فارتحِلِي بالنفس والأولادِ

والبِرّ لا شَكّ فخيْرُ زادِ ** قدّمَه المرءُ إلى المعادِ

قالت أُم الدحداح: رَبِحَ بيعُك! بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أُم الدحداح وأنشأت تقول:
بشّرك اللَّهُ بخَيْر وفَرَحْ ** مِثلُك أدّى ما لديه ونَصَحْ

قد مَتَّع اللّه عيالي ومَنَحْ ** بالعَجْوَة السّوْداءِ والزَّهْوِ البَلَحْ

والعبدُ يسعى وله ما قد كَدَحْ ** طولَ الليالي وعليه ما اجْتَرحْ

ثم أقبلت أُم الدحداح على صبيانها تُخْرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كم من عِذَقٍ رَدَاح ودار فَياح لأبي الدحداح». اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اختلف المفسرون فيه على قولين:
الأول: أن هذه الآية متعلقة بما قبلها والمراد منها القرض في الجهاد خاصة، فندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد، ثم أكد تعالى ذلك بقوله: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} وذلك لأن من علم ذلك كان اعتماده على فضل الله تعالى أكثر من اعتماده على ماله وذلك يدعوه إلى إنفاق المال في سبيل الله، والاحتراز عن البخل بذلك الإنفاق.
والقول الثاني: أن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال: المراد من هذا القرض إنفاق المال، ومنهم من قال: إنه غيره، والقائلون بأنه إنفاق المال لهم ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد من الآية ما ليس بواجب من الصدقة، وهو قول الأصم واحتج عليه بوجهين:
الأول: أنه تعالى سماه بالقرض والقرض لا يكون إلا تبرعًا.
الحجة الثانية:
سبب نزول الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت الآية في أبي الدحداح قال: «يا رسول الله إن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة؟ قال: نعم، قال: وأم الدحداح معي؟ قال: نعم، قال: والصبية معي؟ قال: نعم، فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تسمى الحنينة، قال: فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها، فقام على باب الحديقة، وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدحداح: بارك الله لك فيما اشتريت، فخرجوا منها وسلموها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كم من نخلة رداح، تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح».
إذا عرفت سبب نزول هذه الآية ظهر أن المراد بهذا القرض ما كان تبرعًا لا واجبًا.
والقول الثاني: أن المراد من هذا القرض الإنفاق الواجب في سبيل الله، واحتج هذا القائل على قوله بأنه تعالى ذكر في آخر الآية: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وذلك كالزجر، وهو إنما يليق بالواجب.
والقول الثالث: وهو الأقرب أنه يدخل فيه كلا القسمين، كما أنه داخل تحت قوله: {مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ} [البقرة: 261] من قال: المراد من هذا القرض شيء سوى إنفاق المال، قالوا: روي عن بعض أصحاب ابن مسعود أنه قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال القاضي: وهذا بعيد، لأن لفظ الإقراض لا يقع عليه في عرف اللغة ثم قال: ولا يمكن حمل هذا القول على الصحة، إلا أن نقول: الفقير الذي لا يملك شيئًا إذا كان في قلبه أنه لو كان قادرًا لأنفق وأعطى فحينئذٍ تكون تلك النية قائمة مقام الإنفاق، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة». اهـ.

.قال أبو حيان:

{من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة} هذا على سبيل التأسيس والتقريب للناس بما يفهمونه والله هو الغني الحميد، شبه تعالى عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه بذل النفوس والأموال في الجنة بالبيع والشراء. اهـ.